الضعف العلمي والثقافي لطلاب الكليات الشرعية الأسباب والحلول
الضعف العلمي والثقافي لطلاب الكليات الشرعية الأسباب والحلول
علي الشايب
العلم الشرعي علم الكتاب والسنة، وما كان وسيلة لفهمهما، أفضل ما تنفق في طلبه نفائس الأوقات، وأجدر أن تشد في تحصليه طِوال الرَّحلات، ولا يعدله شيء إذا صلحت النيات، عظيم أثره، جليل قدره، باسقة شجرته، وارفة ظلاله، يانعة ثمرته، طلبه لله عبادة، ومذاكرته تسبيح، أهله هم أهل الخشية والإنابة: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [سورة فاطر:28] ورّاث النبي الكريم، الموقِّعون عن ربِّ العالمين.
وقد كان تلقِّي العلم في الزَّمن السابق عن طريق مجالسة العلماء وثني الركب أمامهم، فظهرت بركةُ تلك المجالس بظهور علماءََ كبارٍ وأئمَّةٍ عظام، في مراحل التاريخ المختلفة، ثم استجدَّت هذه الأنظمة الحديثة في التعليم النظامي في المدارس والجامعات والمعاهد، وصاحبتها بعضُ الإشكالات، وارتبطت كثيرٌ من أمور الناس بها، وأصبحت شرطاً لمن يُريد أن يعمل في مجال التدريس وغيره من الوظائف العلمية، وميزاناً يُميِّز بين الناس في الفضل والعلم والتقديم والتأخير، فصاحب اللقب العلمي هو المقدم وإن لم يكن وراء اللقب شيئاً، وربما أُخِّر العالم الربَّانيُّ؛ لأنه لا يحمل هذه الشهادة.
عدم اكتشاف الذات، والضعف في تحديد الرغبات، خطأ يشترك فيه المربون ودور التعليم والطالب نفسه، ومن ثم تراه يتخبط.
والمرحلة الجامعية للدارس والمدرس لها أهمية كبيرة، وخطورة بالغة؛ لأنها قطب رحى الدراسة النظامية، فهي تتزامن مع باكورة الشباب، واكتمال القوة والفتوة، وهي فترة ذهبية في عمر الشاب يجتمع فيها الاستعداد العقلي والفطري للتلقِّي وطلب العلم والمعرفة، فتجاوُزها بنجاح يُعتبر مرحلةً حاسمةً في مستقبلِ الشاب، ثم تعقبها مرحلة التأهل لتحمّل المسؤوليات الاجتماعية والتربوية والتعليمية وغيرها.
وقد كانت الجامعات في بداية نشأتها تخرج طلاباً أقوياء في العلم والفهم وبناء الملكات، ثم بدأ الضَّعف والتدني في مستوى التحصيل العلمي، لدى طلاب الكليات الشرعية خاصة والمرحلة الجامعية بصفة عامة، ولا شك أن لهذه الظاهرة أسباباً ظاهرةً عامةً وأسباباً خاصة، فمن الأسباب العامة:
*عدم تحديد الهدف أو غموضه عند كثير من الملتحقين بالجامعات، وإذا غاب الهدف العام عن أي عملٍ أو مشروعٍ فغياب الأهداف المتفرعة عنه التي توصل إلى تحقيق الهدف العام أولى، فيدخل الطالب الجامعة، وهو لا يدري ماذا يريد أن يكون؟! أو لأي مستوى من المعرفة يصل خلال هذه السنوات الأربع أو الخمس؟! وقد يحدد هدفاً لكنه ضعيف لا يحقق كبير فائدة.
*فساد النية عند البعض، فيطلب العلم لينال به عرضاً من الدنيا، أو ليشار إليه بالبنان، وتخلع عليه الألقاب المحدثة (دكتور وبروفيسور) فيُحرم العلم أو بركته، وهذا في الحقيقة أخطر الأسباب؛ فإن طلب العلم الشرعي عبادة عظيمة، وكلُّ عبادة يُشترط لصحتها وحصول ثمرتها حسنُ المقصد وسلامة النية من الشوائب والدُّخولات الفاسدة.
*عدم اكتشاف الذات، والضعف في تحديد الرغبات، وهو خطأ يشترك فيه المربون ودور التعليم والطالب نفسه، ومن ثم تراه يتخبط في اختياره للمجال أو الكلية التي سيلتحق بها، وربما امتحن للشهادة الثانوية وهو لم يحدد المجال، وبعد ترددٍ وإحجام وإقدام يلتحق بأحد التخصصات المتاحة، وقد يؤدي ذلك إلى أن يصاب بالملل من الدراسة؛ لأنه اختار مجالاً لا يرغبه ولا تميل إليه نفسه ولا يُحسنه كذلك؛ إما مجاملةً لصديقٍ، أو تأثر بوالده فمشى على تخصصه، أو استشار من يثق فيه فأشار إليه، أو غير ذلك، وليس هذا ضرباً من الخيال الذي لا حقيقة له، بل هو واقعٌ مشاهد، ولذلك تجد هذا الصنف من الطلاب -وهم عدد غير قليل- بعد التخرج، يترك مجال دراسته ويعمل في مجال لا صلة له به، كأن المرحلة الجامعيَّة أصبحت ظاهرة اجتماعيَّة ومرحلة لا بد من تجاوزها بأيِّ شكلٍ كان.
ومهما قيل عن إيجابيَّات الدراسة النظامية في الكليات الشرعية ومناهجها، -ولا شك أنَّ لها إيجابيات كثيرة- إلا أن لها سلبيات وإشكالات كبيرة، من ناحية التأصيل العلمي والتدرج في الطلب.
*الهزيمة النفسية والنظرة السلبية للعلوم الشرعية عند البعض، فلا يدخل كلية الشريعة مثلاً إلا إذا تأخَّرت به درجته عن اللَّحاق بركب الأطباء والمهندسين والاقتصاديين والإداريين، فيلتحق بالكلية الشرعية ليكمل بها نقصاً وليتجاوزَ هذه المرحلة.
*قلة النظام والفوضى التي يعيشها كثير من الطلاب في حياته العلمية والعملية، فليست له منهجية معينة يسير عليها في ضبط وقته وتنظيمه ولا في دراسته وتحصيله، تجده يتخبط يوماً مشرِّقاً ويوما مغرِّباً، وأحيانا يقرأ في كتاب في الفقه، وبعده في الحديث أو التفسير، وكذلك في حضور الدروس العلمية من غير منهجية مرسومة أو خطة واضحة مدروسة، فيخرج بمعلوماتٍ مبتورةٍ مشتَّتةٍ لا يربطها رابط ولا ينظمها سلك ضابط.
*التعويل على المنهج المقرر والاكتفاء به، لاسيما ما يسمى بالمذكرات التي يكتبها الطلاب أثناء شرح المدرس للمادة، أو يكتبها أحدهم ويعتمد زملاؤه على ما كتب، وهي في الحقيقة من العوائق الكبيرة، والأحرى بها أن تسمى المنسيات أو المخدِّرات ففيها من السَّقط والأخطاء العلمية والأغلاط الإملائية وضعف الأسلوب وركاكة التَّعبير وبتر الكلام والخطأ في النصوص من الآيات والأحاديث الشيء الكثير، ولذلك فإنَّ كثيراً من المدرسين لا يعتمدها ولا يعترف بها، وسمعت بعضهم يتوعَّد بعض الطلاب إن وضعوا اسمه على المذكرة، وكان أحد أساتذتنا في مادة النحو طلب منه بعض الطلاب أن يضع مذكرةً فقال: "المذكرة لا أريد ذكرها" وهي ممنوعة نظاماً في كثير من الجامعات، بل لا أعرف جامعةً تُقرُّ المذكرات بهذه الصورة، والأدهى من ذلك أنك بعد الاختبارات تجدها ملقاةً على أبواب القاعات وعلى الأدراج، وكأن آخر العهد بها هو يوم الاختبار، يُستثنى من ذلك بعض المذكرات التي يكتبها المدرس ويحررها أو يصورها من بعض الكتب، في بعض المواد كالمواد التربوية مثلاً، مع الحذر من الاعتماد عليها والاكتفاء بها، فالطالب في هذه المرحلة يجب أن يرتبط بكتب أهل العلم، وفهم المصطلحات العلمية ومعرفة مناهج المؤلفين في مختلف الفنون.
ومهما قيل عن إيجابيَّات الدراسة النظامية في الكليات الشرعية ومناهجها، -ولا شك أنَّ لها إيجابيات كثيرة- إلا أن لها سلبيات وإشكالات كبيرة، من ناحية التأصيل العلمي والتدرج في الطلب، والحرص على تحصيل المعدلات العالية، على حساب الضبط والإتقان والنية الصالحة في طلب العلم النافع للعمل الصالح، وهذا يُخشى عليه أن يناله الوعيدُ الشَّديدُ في قوله -صلى الله عليه وسلم-: من تعلم علماً مما يُبتغى به وجهُ الله، لا يتعلمه إلا لينال به عرضاً من الدنيا، لم يجد عرف الجنة، إضافة إلى ضعفِ كثيرٍ من المدرسين، بل عجز بعضهم عن القيام بمهمة التَّدريس على الوجه المطلوب.
ومن الأسباب غير المباشرة -في نظري- أنَّ هناك ضعفاً علميَّاً صاحَب الطفرة المعلوماتيَّة الهائلة والتقدم التقني والعلمي في شتى المجالات، ومنها مجال البحث العلمي، فسهولة الوصول إلى المعلومة أدى إلى نوع من التواكل والإهمال، وعدم المبالاة من بعض الناس.
وقد تسمع أحياناً بعضهم يزهد في شراء الكتب وقراءتها، بحجة أن الأمر أصبح سهلاً، فهو بضغطة زر يستطيع أن يصل إلى ما يريد ويحمّل من الموسوعات العلمية ما يشاء، لكن فاته أن هناك فرقاً كبيراً وبوناً شاسعاً بين طلب العلم وإتقانه وضبط مسائله والتبحر فيه، وبين البحث عن معلومة أو مسألة، فيستعين بالحاسب وخدمات البحث المتطورة في الوصول إليها، أما ما قبل هذه المسألة أو بعدها، فهو لا يعلم عنها شيئاً.
والعلم لا ينال براحة الجسد، كما قال سلفنا الصالح، ولا شك أنَّ هذه الوسائل أفادت كثيراً وذللت الصعاب وقرّبت بعيد المنال ويسَّرت ما كان عسيراً في الزمان الماضي، لكنَّ المشكلة في الاقتصار عليها والوقوف عندها، ومن ثم يضعف الاهتمام بحفظ ما وصل إليه عن طريق هذه الآلة والمحافظة عليه؛ لأنه لم يبذل في سيل الوصول إليه كبيرَ جهدٍ، وإنما أستاذه في ذالك الحاسب وهو بيده وطوع اختياره، متى احتاج إلى معلومة حصل عليها، وهكذا كلُّ شيءٍ لم تبذل فيه جهداً ولم تلحقك فيه مشقة يقلُّ اهتمامك به، بخلاف الزمان الماضي لما كان الوصول إلى الكتاب أحياناً في غاية المشقة والعسر، وإن الإنسان ليعجب عندما يقرأ في التاريخ أنَّ بعض الكتب بيعت بوزنها ذهباً، وقالوا: بع الدار واشترِ الأذكار، الأذكار كتاب عظيم في بابه للإمام النَّووي والرحلة في الطلب أشقُّ من ذلك، وكان الحفظُ وسيلة مهمة للحفظ وليست الأقراص المدمجة!
ومن الأسباب غير المباشرة أنَّ هناك ضعفاً علميَّاً صاحَب الطفرة المعلوماتيَّة الهائلة والتقدم التقني.
رؤية للحل:
وبضدها تتميز الأشياء، إذا كان ما سبق هو من أبرز أسباب الضعف، فهذه إشارات مضيئة وكلمات سريعة لعلها تضع النقاط على الحروف وتشخص الداء -إن شاء الله تعالى-؛ ليلتمس له العلاج الناجع:
*استصحاب النية الصالحة من أول الطريق والعزيمة الصادقة في طلب العلم، وتجديد ذلك كلما فترت النفس وضعفت الهمة، ودوام الافتقار إلى الله، وطلب العون منه وحده في تيسير الأمور، وحصول البركة في الوقت والعمر والعلم والعمل، ومحاسبة النفس باستمرار واستدراك الخلل وإصلاح العيب، وإكمال النقص...
*تحديد هدف عام لهذه المرحلة بعيد المدى، ثم تتفرع عنه أهداف مرحلية متوسطة المدى، كالأهداف الفصلية والسنوية، ودونها أهداف قصيرة المدى قريبة كاليومية والأسبوعية.
*القراءة في سير العلماء وصبرهم على طلب العلم والرحلة في سبيله، وكيف أنَّهم تحمَّلوا المشاقَّ وقطعوا الفيافي والقفارَ، وتعرضوا لكثير من الأخطار، فربما رحل بعضهم مسيرة شهر في طلب سماع حديثٍ واحد، أو للقاء شيخٍ والأخذ عنه، ففي ذلك حافز كبير ودافع قويٌّ للطالب؛ للاقتداء بهم والسير على طريقهم، ومن أنفع الكتب في ذلك بعدَ المطولات كتاب (صفحاتٌ من صبر العلماء على الطلب) للشيخ عبد الفتاح أبو غدة -رحمه الله-. والكتاب مطبوع متوفر في المكتبات.
* وضع جدولٍ زمنيٍّ لهذه المدة، يلزم به نفسه يومياً ويستمر عليه.
ونرشح وضع برنامج علمي -يمكننا تفصيله لاحقاً كمقترح يعرض على العلماء- مع علمنا أن أي برنامجٍ قد لا يناسب البعض، بل بالاستفادة من الفكرة والنَّسج على منوالها؛ لأنَّ الناس يختلفون في قدراتهم ومستوى ذكائهم وتحصيلهم العلمي، وما يصلح لعمرو قد لا يناسب بكراً، فإلزام الجميع بخطةٍ واحدةٍ خطأٌ منهجيٌّ وخللٌ تربويٌّ، لكن قد يَصلح لكثير من المبتدئين لاشتراكهم في المستوى.
ونقترح أن يقسم هذا البرنامج على سنوات الدراسة أو المستويات الدراسية، يتدرج فيه الطالب من صغار العلوم إلى كبارها، ومن مختصرات المتون إلى متوسطها ومطولها، ويشمل المتون التي ينبغي أن يدرسها طالب العلم في مختلف الفنون، وتُشرح له بواسطة شيخ أو طالب علم ممن يحسن ذلك ويتقنه، والمتون المنظومة والمنثورة التي تُحفظ ولو لم تُشرح، كما يشمل القراءة العامة في مباحث العلوم الشرعية المختلفة ومصادر الثقافة المتنوعة، وهي لا تقلُّ أهميةً عمَّا قبلها، كالقراءة في كتب التفسير والحديث والفقه والعقائد والرَّقائق وتهذيب النفوس والأخلاق والسير واللغة والأدب وغيرها، ومتابعة الدوريات والمجلات العلمية النافعة والبحوث المحكمة، والمواقع الإلكترونية الموثوقة، كمواقع العلماء والمكتبات الشاملة.
نصائح وملاحظات:
• ينبغي للطالب أن يدير وقته بدقة، فالوقت رأسُ مال الإنسان ومحلُّ الربح والخسارة، وعلى قدر استغلاله يكون النجاح والوصول إلى الهدف المأمول في الدنيا والآخرة.
ويوزع البرنامج توزيعاً صحيحاً، حتى لا تختلط عليه الأوراق ويختل برنامجه، وكل إنسان أدرى بحاله.
قال الوزير ابن هبيرة:
والوقت أنفس ما عُنيت بحفظه | وأراه أكثر ما عليك يضيع |
وقال آخر:
وأذان الطفل في الميلاد يوماً | وتأخير الصلاة إلى الممات |
دليلٌ على أنَّ محياه قليل | كما بين الأذان إلى الصلاة |
وتوزيع البرنامج على الوقت والجدول اليومي للطالب يضعه الطالب بنفسه باستشارة أهل الخبرة والمعرفة بحاله ومستواه، ولا يستشير البعيدين الذين لا يعرفون عنه شيئاً، فالحكم على الشيء فرعٌ عن تصوُّره.
• مراجعة القرآن لا تتقيَّد بزمان ولا مكان، ولا تتوقَّف حتى أيامَ الاختبارات، والأمر سهل ميسور إن شاء الله، وإذا ضاق الوقت وازدحمت الواجبات، فما بين الأذان والإقامة في الصلوات الخمس يكفي لمراجعة جزئين تقريباً، بشرط أن يؤذن المؤذن وأنت في المسجد، أو شرعت في المراجعة.
• قراءة كتب شيخ الإسلام وكتب العقيدة المسندة وكتب المحقِّقين من المتأخرين وغيرهم، وسماع الشروح العلمية المختلفة، أمرٌ في غاية الأهمية، لكن الأفضل أن لا ينشغل الطالب في هذه المرحلة بها، وإنما يقتصر على المهم منها، مما له صلةٌ ببرنامجه العلميِّ، حتى لا يتشتَّت جهده.
• استغلال الإجازات في استكمال النَّقص وقراءة شروح المتون التي حفظها.
في دراسة المتون الفقهية، يستحسن اختيار المذهب السائد في البلد، وإن كان المعوَّل عليه هو الدليل، فإذا صح لم يسع أحداً مخالفته، وهذا محل اتفاق بين أهل العلم لا نزاع فيه، لكن في اختيار دراسة المذهب السائد فائدة كبيرة للداعية وسبب عظيم لنجاح دعوته؛ لأنه جزء من واقع المدعوِّين، والناس يميلون إلى من يشاركهم في تخصص أو مهنة أو مذهب، كما يَنفرون عمن يخالفهم ويأتيهم بما لا يعرفون.
• أهمية دراسة المتون الفقهية المذهبية، والتي وضعها علماء كبار، ضربوا في كلِّ فنٍّ من علوم الشريعة بسهم، وحظ وافر، ورتَّبوا هذه المتون ترتيباً موضوعيَّا متناسباً، كما رتَّبوها على مستويات الطلاب، ففيها ما يصلح للمبتدئ والمتوسط والمنتهي والمجتهد، وانظر على سبيل المثال ترتيب ابن قدامة لكتبه الأربعة: (العمدة، والمقنع، والكافي، والمغني)، كلُّ كتاب منها يوصل إلى ما بعده، وقد سبقوا جميع النظريات التربوية المعاصرة في هذا الجانب، ولدراسة هذه المتون فوائدُ كثيرة لا يستغني عنها طالبُ علم؛ منها:
1- أنها جمعت الأحكام الفقهية المتفرقة المنثورة في أدلة الشرع في مكانٍ واحدٍ بعباراتٍ موجزةٍ ومحكمة، مما يسهل ضبطها واستيعابها.
2- تساعد على تنمية الملكة الفقهية لدى الطالب، وذلك عندما يرى دقة استنباط الفقهاء للأحكام من النصوص والتمييز بين مراتبها، فيأخذون من النَّص الواحد عشرات الأحكام، ثم يميزون مرتبة كل حكم، فيقولون: هذا واجب، وهذا مستحبٌّ، وهذا مكروه، وهذا مباح، وهذا محرم، وهذه رخصة، وتلك عزيمة.
3- دراسة هذه المتون هي سبيل العلماء منذ أن تميَّزت العلوم واستقلت.
4/ضعفُ معظم الناس -أو أكثرهم- عن أخذ الأحكام مباشرةً من النصوص، فمن الأحكام ما يؤخذ من ظاهر النص ومنطوقه، ومنها ما يؤخذ من مفهومه وتنبيهه وإشارته، أما الأحكام النصية فهي واضحةٌ لمعظم الناس لكنها قليلة، وهذا الضَّعف من زمن متقدم، ولذلك تجد من يحفظ القرآن وكثيراً من الأحاديث ويجهل صغار المسائل الفقهية، وقد سمعت أحد العلماء مرَّةً يقول: ربما يحفظُ الإنسان الكتب الستة ولا يُحسن الصلاة. أو كلمةً نحوها. بيد أنَّ هذه المسائل لا بد أن تربط بأدلتها، والمعتبر منها ما وافق الدليل، وما خالف الدليل يُضرب به عرض الحائط، كما أوصى الأئمة بذلك.
• مراجعة المحفوظ باستمرار، حتى لا يضيع جهده في غير فائدة.
• من المهمِّ جداً: أن يستفيد الطالب من زملائه بالمذاكرة والمناقشة، وبعض الطلاب لهم نبوغ في بعض الفنون قد يستفيد منهم أكثر من الشيخ، كما يحرص أن لا يصحب إلا أهل الهمم العالية والجدِّ والاجتهاد، ويحذر بل يفر من الكسالى فراره من الأسد فإنَّ مصاحبة هؤلاء كالسُّمِّ النَّاقع، والداء القاتل.
• الاهتمام بالمقررات الدراسية الجامعية وعدم إهمالها، ففيها خير كثير، وحتى لا يضعف الطالب أكاديميَّاً، فإن ذلك يؤثر في مستقبله الدراسي والوظيفي، ويُفوِّت عليه فرصاً للدعوة والتعليم، شرطها الشهادة والمعدل، فيحرص على أن لا ينزل مستواه عن "جيد جدا"، ويستصحب النية الصالحة في أن يجعلها وسيلة للدعوة وخدمة الإسلام، وتتجلَّى أهميتها من خلال النقاط التالية:
1- أنها أصبحت جزءاً من واقعنا المعاصر، وارتبطت بها أمور الناس، وصارت فرضا كفائياً في حق الأمة، لتوقُّف كثير من المصالح العامة والخاصة عليها، والشريعة مبناها على جلب المصالح وتكثيرها.
2- كثير من المناصب الدعوية والعلمية، يُشترط فيها مستوى معينٌ من الدراسة النظامية، وكلَّما ترقَّى الطالب في الدرجات العلمية، أتيحت أمامه الفُرص وفُتحت له الأبواب.
3- إن لم يهتمَّ أهل الدين والاستقامة بها، اهتم بها غيرهم من أعداء الإسلام، فنصير عالةً عليهم في كثير من ضروريات حياتنا.
4- يستفيد الطالب من المعارف والمعلومات المختلفة والتنوع الثقافي، الذي قد لا يُتاح له في غير الجامعات، ويساعده ذلك على النضوج العلمي وبناء الملكة الفقهية، كما يلتقي بكثير من العلماء ذوي التخصصات المتنوِّعة، والمشارب المختلفة، وغير ذلك من الفوائد.
• في حالة عدم إكمال متنٍ من المتون أو كتاب، فينبغي تدارك ذلك في الإجازة وأوقات الفراغ، ولا يتركه، فإنَّ بركة الكتاب في إكماله كما قيل.
فإذا أكمل الطالب برنامجه، وقد تخرج في الكلية يكون قد تأهل لطلب العلم، وأُصِّل في أبواب العلم المختلفة؛ فينطلق بعدها في قراءة دواوين العلم وجرد المطولات، واختصارها لنفسه، وتلخيص فوائدها، مراعياً في ذلك ترتيب الأولويات والبدء بالأهمِّ فالمهم.
وأفضل عون للطالب على حصول البركة في الوقت والعلم، هو العملُ بما علم، فالعملُ ثمرة العلم وزكاته، ومن ذلك قيامُ الليل بالقرآن، فإنَّه يُعين على التدبر وضبط الحفظ، وحسن الخلق، وعلوِّ الهمة وصدق العزيمة، وقوة الإرادة، والتضرع واللجوء إلى الله بالدعاء في الأسحار بأن يفتح الله عليه بالعلم والفهم، فالله وحده هو المعلم، والعلم نور يقذفه الله في قلب العبد، يفرق به العبد بين الخطأ والصواب، والحق والباطل، قال - تعالى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [سورة الأنفال:29]، وقال سبحانه: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ... [سورة البقرة:282].
معوِّقات:
هناك معوقات في طريق النجاح عموماً، وطلب العلم خصوصاً، منها:
*المجتمع وهو يشكل عدة عقبات منها:
1- الترف المقعد في عددٍ من الدول العربية والإسلامية الذي يصيب المجتمع بالترهل والضعف والتراخي، وإيثار الدَّعة والرَّاحة وقلة الصبر، فيصبح الباحثُ عن المعالي في المجتمع، كباحث عن إبرة في وسط كومة من القش.
2- ضيق سبل العيش على كثيرٍ من الناس بسبب الفقر المدقع، أو بسبب سوء الحالة الأمنية، فينشغل الإنسان بتحصيل القوت وتأمين المستقبل.
3- المشكلات الداخلية التي تحيط بالمرء، من زوجٍ مزعجة أو أولادٍ عاقِّين أو أهلٍ متعبين.
4- ومنها كذلك مجالسُ الغِيبة التي يعقدها بعض طلاب العلم، خاصةً التي يطعن فيها في بعض أهل العلم بالتخرصات والأوهام الباطلة، وإن قيل عنها أن مقاصد أصحابها حسنة، فإنَّ العاقل لا يرضى أن يضيع وقته في "قيل وقال"، حتى لو كان الكلام مباحاً، فكيف بغيبة المؤمنين وأهل العلم المصلحين؟!
*العقبات الشخصية ومنها:
1- الكسل، وهو مؤدٍّ إلى العجز ولا بد، والكسل آفة النجاح، وهو وباء فتاك يفتك بكلِّ من يصيبه.
2- السآمة والملل.
3- التردُّد وهو من الأسباب الموصلة للعجز، وذلك لأنَّ المتردد قلَّ أن يعزم على أمر.
4- ومن أخطر العوائق لطالب العلم في بداية مسيرته العلمية: الانشغال ببُنيَّات الطريق، كالاهتمام ببعض المسائل العلمية أو المنهجية أو النوازل التي لم يتأهل بعد للنظر فيها، فإنَّ ذلك مضيع للوقت، مشتِّتٌ للجهد، مشوِّش على الفكر.
5- الغرور والإعجاب بالنفس، خاصة إذا كان متفوقاً أكاديميًّا، فإنَّ الغرور ممحقٌ لبركة العلم، سببٌ للكبر وازدراء الآخرين، وتلك مساوئ الأخلاق التي يجب أن يترفع عنها كلُّ مسلم، فضلاً عن طلاب العلم. ومن مظاهر الغرور الاعتداد بالرأي، وعدم قبول الحق إذا ظهر مع المخالف، واحتقار العلماء وتنقصهم، والإكثار من كلمات: (عندي، أرى، أنا، نحن يعني نفسه...).
وتجاوز هذه العقبات يكون بما سبقت الإشارةُ إليه، من الاستعانة بالله والدعاء وعلوِّ الهمة ومحاسبة النفس...
7/10/1428