واجب الأمة نحو علمائها

واجب الأمة نحو علمائها

عبده أحمد الأقرع


الحمد لله رافع أهل العلم درجات، والمفضِّلِ ذوي العلم في الحياة والممات، وأصلي وأسلم على سيد الدعاة وإمام الأنبياء وعلى آله وأصحابه ومن استن بسنته واهتدى بهداه.
أما بعد:
فالعلم منةٌ يمنّ الله به على من شاء من عباده، قال تعالى عن نبيه يوسف : وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا 
[سورة يوسف:22]، وقال تعالى عن كليمه موسى : وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا [سورة القصص:14].

 وقال تعالى عن داود وسليمانَ -عليهما السلام-: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة النمل:15] فخصّ العلمَ بالذكر مع أنه آتاهما مالاً وملكًا، وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [سورة الأنبياء:79]، ذكر سبحانه أنهما قالا: (الحمد لله) لاعتقادهما أنَّهما بالعلم فُضِّلا على كثير من عباده المؤمنين، وامتن سبحانه على نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [سورة النساء:113]، فمن أورثه الله علمَ الكتاب والسنة فقد اصطفاه، قال -صلى الله عليه وسلم-: من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين
إذن فالعلماء وارثوا علم النبوة، بهم قام الكتاب وبه قاموا، وهم مثالُ الاستقامة، بالعلم عاملون، وعلى الحق سائرون، يهدون بالحق وبه يعدلون، مصابيح الدجى، وأعلام الهدى، بهم يُهتدى ويُقتدى، وعلى خطاهم تعيش الأمم على هدى وبصيرة من أمرها بعيدًا عن البدع والخرافات ودروب الجهل والضلال، استشهد الله بهم دون غيرهم من البشر على أجل مشهودٍ به وأعظمه: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُواْ الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ 
[سورة آل عمران:18]
وأخبر سبحانه أنهم أهل خشيته: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ 
[سورة فاطر:28] وأمر سبحانه رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يستشهد بهم على رسالته: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ [سورة الرعد:43]، واستشهد بهم سبحانه على صحة ما أنزل على رسوله -صلى الله عليه وسلم-: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبَّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [سورة الأنعام:184]، وجعل سبحانه كتابه آياتٍ بينات في صدورهم، قال تعالى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ۝ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ [سورة العنكبوت: 48-49].

 ونفى سبحانه التسوية بين العالمين والجاهلين فقال تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [سورة الزمر:9].
وأمر تعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يكتفي بشهادة أهل العلم ولا يعبأ بالجاهلين، فقال تعالى: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً ۝ قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا ۝ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً
 [سورة لإسراء:106-108].

 وأخبر سبحانه عن رفعة درجات أهل العلم، فقال تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [سورة المجادلة:11].
عن ابن مسعود قال: "ما خصّ اللهُ العلماء في شيء من القرآن ما خصَّهم في هذه الآية، فضَّلَ اللهُ الذين آمنوا وأوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم". 
[الدر المنثور: 83/3]
ودعا الله الناس إلى سؤالهم فيما يجدُّ من مسائلَ وقضايا فإجابتُهم تزيل الشبهات، قال الله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ 
[سورة النحل:43].
وأخبر سبحانه أنهم المنتفعون بضرب الأمثال، قال تعالى: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ 
[سورة العنكبوت:43]، لذا كان بعضُ السلف إذا مَرَّ بمثلٍ لا يفهمه يبكي ويقول: لست من العالمين. 
وأخبر سبحانه أنَّ العلماءَ سيشهدون للأنبياء على أُممهم يومَ القيامة، فقال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا 
[سورة البقرة:143]، والخطابُ وإن كان للأمَّة إلاَّ أنه من العامِّ المخصوص؛ لأنَّ الجاهلَ شهادتُهُ مردودة، ولذلك قال الإمام البخاري -رحمه الله- في صحيحه: (باب وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا وما أمر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بلزوم الجماعة، وهم أهل العلم.

وقد مدح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أهل العلم، فقال -عليه الصلاة والسلام-: وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، حتى الحيتان في الماء، وفضلُ العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثةُ الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍ وافر[متفق عليه]
وقد وصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باغتنام حياة العلماء، وأخذ العلم عنهم قبل أن يموتوا، فقال -صلى الله عليه وسلم-: إنَّ الله لا يقبضُ العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبق عالمًا، اتخذ الناس رؤوسًا جُهالاً، فَسُئلوا، فأفتوا بغير علم، فضَلَّوا وأضلُّوا
[متفق عليه]
وقد قيل لسعيد بن جبير: ما علامةُ هلاكِ الناس؟ قال: إذا هلك علماؤهم. ومع هذا الثناء من الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - على أُولي العلم فإنهم لم يسلموا من أقوامٍ يحطُّون من أقدارهم ويجترئون على مقامهم، وينزعُون من مهابتهم، يطعنون في أعمالهم وجهودهم، ويشككون في قدراتهم وكفاءاتهم، ويبلبلون على العامة، يوزعون الاتهامات، ويتبعون المعايب، والأشدُّ من ذلك والأنكى اتهام النيات، والحكمُ على المقاصد، والتطاول على السرائر التي لا يعلمها إلا الله، ولا شكَّ أن هذا ضرر على الدين، فالطعن في العلماء ليس طعنًا في شخوصهم، إنما هو طعن في العلم الذي يحملونه، وبالتالي طعن في الإسلام. 
فاحذروا إخواني كل الحذر من التطاول على علماء الأمة، فالتجريحُ بغير حقّ لا يجوز، ورفضُ الدليل محرمٌ لا يسوغ، والمنهجُ الحقُّ الأخذُ بالدليل مع وافر الحرمة والتقدير لأئمة العلم والدِّين، ومن كانت له نادرة ينبغي أن تدفن في بحر علمه، وتُنسى في جانب عظيم فضله، فالعصمةُ غير مضمونة لأي عالمٍ، ولكن المضمون لهم -إن شاء اللهُ - الأجرُ على اجتهادهم- أصابوا أم أخطئوا. 
قال الحافظ الذهبيّ -رحمه الله-: لو أنّا كلَّما أخطأ إمامٌ في اجتهادٍ في آحاد المسائل خطأً مغفورًا له، قمنا عليه، وبدَّعناه وهجرَناه لما سلم معنا لا ابنُ نصرٍ ولا ابن منده، ولا من هو أكبرُ منهما، واللهُ هو هادي الخلقِ إلى الحقِّ، وهو أرحمُ الراحمين، ونعوذ بالله من الهوى والفظاظة. ا. هـ. 

احذروا التطاولَ على مناهج الأئمة، وعلماء الأمة، أو التهوينَ من فقه السلف، ومن ظَفِر بخطأ عالمٍ فلا يفرح، ولا يتبعْ العثراتِ، ولكن ليصحِّح الخطأ، وليتبينه إلى الصواب يحيطُ ذلك سياجٌ من الخلق الفاضل، في لسانٍ عفيف، ونظرٍ متورع، وقبل ذلك وبعدَه هو بحاجة إلى إخلاص القصدِ لله وحده، وليحذر التشهير والتشنيع، وألا يظنَّ بهم إلا خيرًا: لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا [سورة النور:12]، وبخاصةٍ أولئك الأعلامُ الذين يُعَلِّموُن الناسَ الخير، يجبُ على الأمةِ أن تحفظ حقوقَهم، وتعرفَ مكانتَهم، وتَقْدُرَهم حقَّ قدرهم، وتلتزمَ الأدبَ معهم، إنهم العلماءُ وارثوا علم النبوة خلفاءُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- في أمته، المحيون لما ماتَ من سنته، فمعلم الناس الخير يصلي عليه الله وملائكته ويستغفر له كل شيء حتى الحيتان في جوف البحر، والنملة في جحرها.

 فعليكم -إخواني- بتبجيل العلماء أهل الفضل والإيمان، قال الإمام الطحاويُّ -رحمه الله-: "وعلماءُ السَّلفِ من السابقينَ ومن بعدهم من التابعين أهلُ الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر، لا يُذَكرون إلا بالجميل، ومَن ذَكَرَهُم بسوءٍ فهو على غير السبيل". [الطحاوية ص58 بتعليق شيخنا الألباني -رحمه الله-]
وقال الحافظ ابن عساكر: "اعلم وفقنا الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حقَّ تُقاته أنَّ لُحومَ العُلماءِ مَسْمومة، وعادةُ الله في الانتقام من مُنْتَقصِهم معلومة، ومن أطلقَ لسانه في العلماءِ بالثَّلبِ ابتلاهُ اللهُ قبلَ موتهِ بموت القلب". 
[مقدمة المجموع شرح المهذب 1/ 24]
ومن قبلُ قال ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-: "من آذى فقيهًا فقد آذى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومن آذى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد آذى الله
فيا إخواني: العلماءَ أنزلُوهم منازلهم وأجلّوهم واحترموهم، قال -صلى الله عليه وسلم-: ليس منَّا من لم يُجلَّ كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه
[صحيح الجامع 5319، 5443]
ومن وصايا لقمان: "يا بني: جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإنَّ الله يُحيي القلوبَ بنورِ الحكمة، كما يُحيي الأرض بوابلِ المطر".
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ 
[سورة الحشر:10]
وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.